الحاج عمر العشعاشي رفيق درب مصالي الحاج:
الكثير ممن كانوا يسخرون من مصالي تحوّلوا إلى ثوار وضباط سامين بعد الاستقلال
لا
يحتاج المرء إلى بروتوكولات وتعقيدات وتشريفات زائفة حين يهم بزيارة عائلة
عمر العشعاشي، على خلاف العائلات التلمسانية الثرية. فحين تدق بابه بحي
الحرطون العريق بتلمسان، وربما دون موعد مسبق، يشير إليك الحاج عمر
بالدخول؛ فقد اعتاد على استقبال الوفود والزوار من مناضلي الحركة الوطنية
القادمين من مناطق القبائل ومستغانم والمسيلة والجلفة وغيرها من الذين
يحجون إلى تلمسان لزيارة قبر الزعيم مصالي الحاج.
استقبلنا
عمر العشعاشي بحفاوة، وتوجهنا إلى غرفة المكتب حيث يقضي مؤسس ورئيس
الجمعية الثقافية للحفاظ على التراث الأندلسي المغاربي، أغلب أوقاته.
حياة
دون كرامة، حياة لا جدوى منها... بهذه العبارة يفضل الحاج عمر تقديم سيرته
الذاتية، إذ جاء إلى الحياة ذات الرابع عشر من شهر ماي من سنة 1924
بتلمسان في درب حلاوة، وقضى طفولته بعدها بدرب سيدي علي بنقيم، كبر الطفل
عمر وتربى في وسط ميسور محافظ متشبع بالقيم الحضارية الإسلامية. وفي سن 13
أنهى الفتى دراسته الابتدائية ليتفرّغ للعمل بمصنع والده المتخصص في إنتاج
العجائن الغذائية.
وكان
ذلك، يقول الحاج عمر، سنة 1937، وبعد سنين من العمل مع الوالد بدأت طموحات
الشاب عمر العشعاشي تبرز، ومعها ميولاته السياسية والوطنية، فأسس سنة
''1944 المرآب الوطني الكبير''. وعن اختيار هذا الاسم تتجلى خلفيات
التكوين السياسي والنهل من مبادئ الحركة الوطنية من خلال ملاقاة رجالاتها
وزعيمها الأول مصالي الحاج.
[b][b]طريق التوت والنضال الأبدي في الحركة الوطنية
كان
الحاج عمر العشعاشي، مثلما حكى لنا عن نفسه، لا يفرط البتة في زيارة طريق
التوت بتلمسان، كلما علم أن الحاج مصالي جاء لزيارة ابنة أخته بعين
المكان.
وكان الفتى عمر لم يتجاوز
العشرين. ومما يتذكره عن تلك الأيام يقول الحاج عمر إن الزعيم كان يفرح
بحضور الشباب إلى جلساته، وكان يقول لبنت أخته: ''دعي الشباب يدخلوا علينا
'' .
ويذكر الحاج عمر أن مصالي
الحاج أوصاه مازحا: ''أنتم التلمسانيين لا تبقوا منغلقين على أنفسكم
تزوّجوا من خارج المدينة...''، وهي الوصية التي نفذها الحاج عمر... وهو
يعيش حياة سعيدة مطمئنة.
وعن تلك اللقاءات التي كان
يحضرها بمنزل قريبة مصالي بطريق التوت، يتذكر أن روادها الذين يذكرهم،
هامات وقامات في النضال من أمثال الحاج فنانش وبومدين المعصوم العالم
الذكي الذي قتل مغدورا بمدينة وجدة المغربية، ويذكر أيضا عبد الكريم بن
عصمان بن علي بن آشنهو والحصار مصطفى الذي قتل أيضا بوجدة سنة 1956 والحاج
العربي حميدو الذي استقبل بيته بباب وهران نعش الزعيم سنة 1974، ومتنت
علاقة عمر العشعاشي بمصالي الحاج حين كانت تتوقف سيارة الحركة الوطنية من
نوع '' أوتش كيس'' بالمرآب الوطني الكبير.
وقال إنه كان يستغل الفرصة
ويتشرف بنقل الزعيم والسياقة به على متن سيارته، فينقله إلى وسط المدينة
وهما يلبسان الزي التقليدي الجزائري.
ويذكر هنا الحاج عمر كيف
كان مصالي يقدس الزي واللباس التقليدي وكان يعتبره من ملامح الشخصية
الوطنية. وكان هذا اللباس يزيده مهابة في نفوس خصومه ونفوس المعمّرين.
تاريخ الثورة الجزائرية والحركة الوطنية مطموس
''الآلام والعذاب الذي عاشه
الشعب الجزائري في محاولة من فرنسا لمحو الحركة الوطنية... لا يتصوره
العقل'' ... قالها الحاج عمر ... ملقيا زفرات عميقة... متسائلا في ذات
الحين: أيعقل أن ننسى المئات من الذين عذبوا قبل الثورة وألقت فرنسا بعضهم
أحياء في البحار... ودفن البعض الآخر أحياء ... في مقابر جماعية. وهو ما
يقوم الحاج عمر بجمعه وتوثيقه بشهادات من تبقى من عناصر الحركة الوطنية من
مختلف جهات الوطن.
يقول الحاج عمر إن مصالي
كان إنسانيا في فكره ونضالاته. وكان يقول للمعمرين أعطونا حقنا في
الاستقلال قبل أن تغادروا قهرا حاملين حقائبكم أو ترحلوا على ظهور نعوشكم.
وقد عشنا ورأينا كيف تحققت نبوءته وكيف غادر المستعمر بلادنا ذليلا.
فلماذا الخوف من مصالي الحاج وتاريخه وهو ميت؟ فالتاريخ لا يمكن طمسه!
وقال الحاج عمر العشعاشي
''إن الكثير ممن كانوا يسخرون منا بالانتماء إلى الحركة الوطنية، كانوا
يشتغلون لدى جهاز شرطة الاستعلامات الفرنسية، تحولوا إلى ثوار وضباط سامين
بعد الاستقلال''. وحين سألت الحاج عمر الذي يملك ذاكرة قوية وذوقا رفيعا
وتواضعا صوفيا عن أسماء لبعض العائلات، رفض ذلك بحدة بدعوى أن عائلات
تلمسانية لا تتحمل سفاهة بعض أفرادها، مؤكدا أن الحركة الوطنية في تلمسان
كانت مستهدفة من كل التيارات ولا زالت الحملة مستمرة من خلال مؤلّف ادعى
صاحبه أن والده كان معلما لمصالي الحاج، وهذا أمر غير صحيح وكذب على
الذاكرة. وكيف يحدث هذا ونحن لازلنا أحياء، مستشهدا بمثله الشعبي
التلمساني '' قالوا آجي نرجعو شرفا... قالوا حتى يموتوا اللي يعرفونا''
ومعناه تعال نصبح شرفاء، قال له حتى يموت من يعرفنا.
عمر العشعاشي قال إن دهاء
وخبث المخابرات الفرنسية مكنها من اختراق المركزيين الشباب، فجاء استقلال
الجزائر منقوصا، فحل السوفيات محل المعمّرين وحكمتنا الأحادية الحزبية
والفكر الواحد والحزب الواحد.
ويعتقد رفيق مصالي الحاج أن
تزييف التاريخ خلف جيلا غير متعلق بوطنه. مضيفا أن نضال جيله كان نضالا من
أجل الحركة الوطنية، ومن أجل الحرية والعدالة والديمقراطية. مضيفا ''ونحن
كأعضاء في الحركة الوطنية.. (قالها مستظهرا بطاقة انخراطه السنوية
1947ـ1948)... لا نريد اليوم حزبا ولا حكما، وإنما نريد كتابة التاريخ
الصحيح منذ سنة 1830 بعد مقاومة قرن كامل من الزمن، فلا بد من زرع
المواطنة وحب الأرض، وما نملكه الآن من وسائل الإعلام والمؤسسات كفيل
بتربية الأجيال ولكن بالصدق وليس بالكذب.
اليهود... وعبق التاريخ
مكتب
عمر العشعاشي في الطابق الأول من فيلا حي الحرطون متحف نفيس من الصور
والوثائق والأثاث. فهذه صورة جده سيدي محمد بن يلس الذي أفتى سنة 1911
بالجامع الكبير بتلمسان فتواه الشهيرة بحرمة التجند في صفوف الجيش الفرنسي
وأجاز الهجرة للعائلات التلمسانية، فهاجر إلى دمشق وأسس بها الزاوية
الشاذلية. وفي زاوية للمكتب يعلق الحاج عمر رداء حريريا أندلسي الطراز،
قال إن المرحوم والده خاطه لدى اليهودي ميمون الذي كان يحترف خياطة
البرشام الرفيع بدرب مسوفة. وحين سألته عن وضع اليهود في تلمسان آنذاك،
قال الحاج عمر إنهم كانوا يعيشون مع الأهالي في سلام، وكان أغلبهم حمالين
وماسحي أحذية، بل إن يهوديا مرموقا الآن بفرنسا كانت والدته تشتغل في غسل
الأواني بمنزل عائلة العشعاشي. وبدأ وضعهم يتغير بعد صدور قانون فيولات
سنة ,1936 بعد أن اختاروا الصهيونية والعنصرية طريقا.
اختار عمر العشعاشي العزلة
ببيته للتفرغ للبحث في تاريخ تلمسان والمغرب الأوسط والحركة الوطنية بعد
أن أصدر، قبل سنوات، كتابا بعنوان ''الماضي العريق لعاصمة الزيانيين''.
ينهض فجر كل يوم ليلتحق بمكتبه، باحثا وكاتبا، وهو على هذه الحال منذ سنة .1991
ويقول إنه لا يبحث عن مال
ولا شهرة في هذه السن. مؤكدا أن المال وحب النفس إذا حلا بالحركات
والثورات أفسداها، ودعاوى الناس صعبة، فنضاله كان طوعيا وعن قناعة ودون
مقابل أو أمر بمهمة.
ويتذكر أنه سنة 1947 كان في
مهمة في إطار الحملة الانتخابية لصالح قائمة الحركة الوطنية، فانقلبت به
السيارة قرب وادي الشولي وضاعت السيارة ولم يطلب دينارا واحدا كتعويض.
وعن موعد تلمسان عاصمة
للثقافة الإسلامية، تساءل مضيفنا هل ستعيد لتلمسان وعائلاتها لذة الحياة
والتراث غير المادي الضخم، في التاريخ، والدين، والحرف والفن، حيث كانت
جلسات الذكر والتنزه في الحدائق والبساتين.
وبعد ثلاث ساعات من
الاستماع إلى ما استعادته ذاكرة المناضل في صفوف الحركة الوطنية وأحد
تلامذة مصالي الحاج في الوطنية، طاف بنا الحاج عمر من غرفة المكتب إلى
قاعة استقبال أنصار مصالي الحاج، دون أن ينسى إكرامنا بإبريق الشاي
وحلويات تقليدية تلمسانية وعصير من الليمون الخالص. أمنيته أن أعيد إليه
كتاب مذكرات مصالي وصور الحاج بن يلس ... أمنيته أيضا أن يسهم الإعلام في
كشف التاريخ المطموس وإحياء تراث الآباء والأجداد الذي حاول الاستعمار
عبثا إبادته.
عمر العشعاشي قال ونحن
نودعه ''في هذه السن لا أخاف شيئا ... اكتبوا في الخبر... مثلما رحل
الاستعمار خائبا ... سيرحل كل ظالم. وهذا يقين عند رجال الحركة الوطنية[/b][/b]